فصل: (فرع: جناية ثلاثة على صيد)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[مسألة: وجوب الأرش إذا رمى اثنان صيدا]

إذا رمى رجل صيدا فوجأه، بأن قطع الحلقوم والمريء أو ثغرة النحر، أو أصابه في مقتل كالقلب والخاصرة.. فقد ملكه بذلك، ولا يفتقر إلى ذكاة. فإن رماه آخر بعد ذلك.. فإنه لا تأثير للثاني في تحريمه، بل يجب عليه أرش ما نقص إن أحدث به نقصا، بأن خرق جلده أو ما أشبه ذلك.
وإن لم يصيره الأول في حكم المذبوح، بل أزال امتناعه فقط.. فقد ملكه بذلك،
فإن رماه آخر.. نظرت: فإن أصابه الثاني في محل الذكاة، بأن قطع حلقومه ومريئه أو ثغرة نحره.. حل أكله، ووجب على الثاني ما بين قيمته مذبوحا ومجروحا، كما لو ذبح لغيره شاة مجروحة. وإن أصابه في غير محل الذكاة.. نظرت: فإن وجأه مثل: أن وقع في قلبه أو خاصرته.. حرم أكله؛ لأنه قتله بعد أن صارت ذكاته في الحلق واللبة، ويجب عليه للأول قيمته مجروحا. وإن لم يوجئه الثاني، بل جرحه جرحا قد يسري إلى نفسه، فإن لم يقدر الأول على ذكاته مثل: أن جاء إليه وقد مات، أو جاء إليه وقد بقي من حياته ما لا يتسع الزمان لذكاته.. حرم أكله، ويجب على الثاني قيمته مجروحا، وإن أدرك الأول ذكاته ولم يذكه حتى مات.. لم يحل أكله: لأنه ترك ذكاته مع إمكانها، وأما الذي يجب على الثاني.. ففيه وجهان:
أحدهما قال أبو سعيد الإصطخري: يجب عليه قيمته مجروحا؛ لأن الأول لم يوجد منه أكثر من الرمي الذي ملكه به وترك الذكاة، وهنا لا يسقط ما وجب له على الثاني، كما لو جرح له شاة وترك مالكها ذكاتها حتى ماتت.
والثاني: قال عامة أصحابنا: لا يجب على الثاني كمال قيمته مجروحا، وهو المذهب؛ لأن جراحة الأول وإن كانت مباحة إلا أنه لما أدرك ذكاته ولم يفعل.. تبينا أنها وقعت محظورة، وجراحة الثاني محظورة الابتداء، وإذا مات بجراحتين محظورتين.. لم يجب على أحدهما كمال قيمته، كما لو جرح رجل شاة لنفسه، ثم جرحها آخر فماتت من الجراحتين.. فإنه لا يجب على الثاني كمال قيمتها.
فإذا قلنا بهذا: قسمت القيمة على قدر الجنايتين: فما خص جراحة الأول.. سقط، وما خص جراحة الثاني.. وجب عليه. فتفرض المسألة في صيد مملوك لرجل، قيمته عشرة دراهم، جرحه رجل جراحة نقص بها من قيمته درهم، ثم جرحه الثاني جراحة نقص بها درهم، ثم مات منهما، ففيه ستة أوجه:
أحدها - وهو قول المزني ـ: أنه يجب على كل واحد منهما أرش جنايته، وهو درهم، ثم يجب على كل واحد منهما نصف قيمته بعد الجنايتين، فيجب على كل واحد منهما خمسة؛ لأن كل واحد منهما انفرد بجناية أرشها درهم، فوجب عليه أرش ذلك، ثم مات منها، فوجب قيمته بعد ذلك بينهما. فإن نقص بجناية الأول ثلاثة دراهم، وبجناية الثاني درهم.. وجب على الأول أرش جنايته ثلاثة دراهم، وعلى الثاني درهم، ثم يقسم ما بقي من قيمته بعد ذلك، وهو ستة بينهما نصفين فيجب على الأول ستة وعلى الثاني أربعة. فإن قيل: فهلا سويتم بينهما في الضمان هاهنا، كما قلتم في الحر إذا قطع رجل يديه، ثم قطع آخر رجله فمات: أن الدية تجب عليهما نصفين؟ قلنا: الفرق بينهما: أن الحر لا تنقص ديته بالجناية عليه، ألا ترى أن رجلا لو قطع يد رجل ورجليه، ثم قتله آخر.. لكان على القاتل ديته كاملة، بخلاف الصيد.
والوجه الثاني ـ وهو قول أبي إسحاق ـ: أنه يدخل نصف أرش جناية كل واحد منهما فيما ضمنه من نفسه؛ لأن الجناية إذا صارت نفسا.. سقط حكم الجناية. وقد أتلف كل واحد منهما نصف نفسه فدخل نصف أرش جنايته في قيمة ذلك النصف ولم يدخل النصف الآخر في أرش جنايته؛ لأن المتلف للنصف الآخر غيره، فيجب هاهنا على الأول نصف قيمته يوم جنى وهو خمسة ونصف أرش جنايته لأجل النصف الذي جنى عليه الثاني، فيكون عليه خمسة دراهم ونصف، ويجب على الثاني نصف قيمته يوم جنى عليه وهو أربعة دراهم ونصف، ونصف أرش جنايته وهو نصف درهم لأجل النصف الذي ضمنه الأول.
وإذا ثبت: أن هذا النصف الذي وجب على الثاني لأجل جنايته على النصف الذي ضمنه الأول.. فللأول أن يرجع به على الثاني؛ لأن من جنى على ما دخل في ضمان غيره.. فإن للمضمون عليه مطالبة الجاني بأرش الجناية.
فعلى هذا: إن أخذ مالك الصيد من الأول خمسة دراهم ونصف درهم.. لم يأخذ من الثاني غير أربعة دراهم ونصف درهم، وللأول أن يرجع على الثاني بنصف درهم وهو ما وجب عليه بجنايته على النصف الذي ضمنه الأول. وإن أخذ مالك الصيد من الثاني خمسة دراهم.. لم يكن له أن يأخذ من الأول غير خمسة دراهم، ولم يرجع الأول على الثاني بشيء، وهذا كما نقول في رجل غصب من رجل ثوبا قيمته عشرة دراهم، فجنى عليه آخر في يد الغاصب جناية تنقص من قيمته درهما، ثم تلف الثوب في يد الغاصب.. فإن المالك إذا رجع على الغاصب بالعشرة.. رجع الغاصب على الجاني عليه بدرهم، وإن رجع المالك على الجاني بدرهم.. لم يكن له أن يطالب الغاصب إلا بتسعة، ولم يرجع الغاصب على الجاني بشيء، كذلك هاهنا مثله. فقول أبي إسحاق يوافق قول المزني في قدر منتهى ما يؤخذ من كل واحد منهما وإن خالفه في ترتيب الوجوب ومعناه. فإن نقصت قيمة الصيد بجناية الأول ثلاثة دراهم وبجناية الثاني درهما.. فإن الأول يجب عليه نصف قيمته يوم جنايته عليه وهو خمسة دراهم ونصف أرش جنايته وهو درهم ونصف، فذلك ستة ونصف، ويجب على الثاني نصف قيمته يوم جنايته ثلاثة ونصف، ونصف أرش جنايته نصف درهم، إلا أن هذا النصف الدرهم على الثاني لأجل جنايته على النصف الذي دخل في ضمان الأول. فإن رجع المالك على الأول بستة دراهم ونصف.. فقد استوفى حقه منه بقيمة ما دخل في ضمانه، فيرجع الأول على الثاني بنصف الدرهم الذي وجب على الثاني لأجل ما جنى على ما ضمنه الأول، ولا يرجع المالك على الثاني إلا بثلاثة دراهم ونصف درهم.
وإن رجع المالك على الثاني بأربعة دراهم.. رجع على الأول بستة دراهم لا غير، ولا يرجع الأول على الثاني بشيء.
والوجه الثالث ـ وهو قول أبي الطيب بن سلمة ـ: أنه يجب على كل واحد منهما نصف قيمته يوم جنايته، ونصف أرش جنايته، كما قال أبو إسحاق، إلا أنه قال: لا يرجع الأول على الثاني بشيء؛ لأن ذلك يؤدي إلى التسوية في قدر ما يجب على كل واحد منهما مع اختلاف قيمة الصيد عند جنايتيهما، ولكن يضم نصف قيمة الصيد يوم جناية الأول وهو خمسة، ونصف أرش جنايته وهو نصف درهم، إلى نصف قيمة الصيد يوم جناية الثاني وهو أربعة ونصف، ونصف أرش جنايته وهو نصف درهم، فذلك كله عشرة ونصف، وتقسم العشرة وهي قيمة الصيد على عشرة ونصف، فما خص خمسة ونصفا.. وجب على الأول، وما خص خمسة.. وجب على الثاني. وكيفية ذلك: أنك تبسط العشرة التي معها النصف أنصافا؛ ليكون النصف معها فتكون عشرين وتضيف إليها النصف الزائد عليها، فتكون إحدى وعشرين، فتجعل ذلك أجزاء الدراهم، ثم تضرب العشرة المقسومة في إحدى وعشرين، فذلك مائتان وعشرة، فاقسمها على إحدى وعشرين، وهي الأنصاف المبسوطة، فيخص كل نصف عشرة، فتعلم أن الذي يخص صاحب الخمسة والنصف مائة وعشرة؛ لأن عليه أحد عشر نصفا، فاقسمها على إحدى وعشرين، وهي أجزاء الدراهم، فيصبح لك من ذلك خمسة دراهم وخمسة أجزاء من إحدى وعشرين جزءا من درهم، وهو الواجب على الأول. ويخص صاحب الخمسة مائة جزء، من أجزاء الدراهم وهي إحدى وعشرون، فإذا قسمت ذلك على أجزاء الدراهم.. صح لك من ذلك أربعة دراهم وستة عشر جزءا من أجزاء الدراهم وهي إحدى وعشرون، فيجب ذلك على الثاني، فإذا ضممت ما يجب على كل واحد منهما.. كان جميعه عشرة دراهم.
والوجه الرابع: أنه يجب على الأول جميع أرش جنايته، وعلى كل واحد منهما نصف قيمته بعد جناية الأول: فيجب على الأول خمسة ونصف إذا نقص بجنايته درهم، وعلى الثاني أربعة ونصف؛ لأن الأول انفرد بالجناية، فوجب عليه أرشها ومات الصيد من سراية جنايته وجناية الثاني.
والوجه الخامس: أنه يدخل أرش جناية كل واحد منهما في بدل النصف فيكون على كل واحد منهما نصف قيمته يوم جنايته: فيجب على الأول خمسة دراهم وعلى الثاني أربعة ونصف، ويسقط نصف درهم من قيمته. قال: لأني لم أجد من أوجبه عليه منهما.
والوجه السادس: -وهو قول ابن خيران -: أن أرش جناية كل واحد منهما تدخل فيما ضمنه من النفس، فتضم قيمة الصيد عند جناية الأول، وهو عشرة إلى قيمته عند جناية الثاني، وهو تسعة، فذلك تسعة عشر، وتقسم العشرة عليهما، فما خص العشرة.. وجب على الأول، وما خص التسعة.. وجب على الثاني.
وكيفية ذلك: أنك تجعل التسعة عشر أجزاء الدراهم، ثم تضرب العشرة في تسعة عشر، فيصبح لك مائة وتسعون، فإذا قسمت المائة والتسعين على تسعة عشر.. خص كل واحد عشرة، فتعلم: أن الذي يخص العشرة مائة جزء من تسعة عشر جزءا من الدراهم، فإذا قسمت المائة على أجزاء الدراهم.. صح لك خمسة دراهم وخمسة أجزاء من تسعة عشر جزءا من درهم، وهو الذي يجب على الأول. ويخص صاحب التسعة تسعون جزءا، فإذا قسمتها على أجزاء الدراهم.. صح لك من ذلك أربعة دراهم وأربعة عشر جزءا من تسعة عشر جزءا من درهم، وهو الذي يجب على الثاني. فإذا ضممت ما وجب على كل واحد منهما إلى ما وجب على الآخر.. كان الجميع عشرة دراهم، وهذا هو الصحيح.

.[فرع: جناية ثلاثة على صيد]

إذا كان لرجل صيد مملوك قيمته عشرة دراهم، فجنى عليه ثلاثة رجال، فنقص بجناية كل واحد منهم درهمان، ثم مات.. فعلى قول المزني: يجب على كل واحد منهم أرش جنايته درهمان، ثم تقسم الأربعة الباقية من قيمته بعد أرش جنايتهم عليهم أثلاثا، فيجب على كل واحد منهم ثلاثة دراهم وثلث درهم.
وعلى قول أبي إسحاق: يجب على الأول ثلث قيمته يوم جنايته وهو ثلاثة دراهم وثلث درهم وثلثا أرش جنايته، وهو درهم وثلث لأجل الثلثين اللذين تلفا من جناية الثاني والثالث، فذلك أربعة وثلثان، ويجب على الثاني ثلث قيمته يوم جنايته وهو درهمان وثلثان، وثلثا أرش جنايته وهو درهم وثلث. فذلك أربعة دراهم، ويجب على الثالث ثلث قيمته يوم جنايته وهو درهمان وثلثا أرش جنايته وهو درهم وثلث.
فإن أخذ المالك من الأول أربعة دراهم وثلثي درهم.. رجع الأول على الثاني بثلثي درهم، وعلى الثالث بثلثي درهم، فيعلم: أن الذي حصل عليه ثلاثة دراهم وثلث. ويأخذ المالك من الثاني ثلث قيمة الصيد يوم جنايته وثلث أرش جنايته لأجل ما ضمنه الثالث، وذلك ثلاثة دراهم وثلث، ويرجع الثاني على الثالث بثلثي درهم وهو أرش جناية الثالث على الثلث الذي ضمنه الثاني. ويأخذ المالك من الثالث ثلث قيمته يوم جنايته، وهو درهمان. فيكون منتهى ما خرج من كل واحد منهم ثلاثة دراهم وثلثا لأن الثالث قد دفع إلى الأول ثلثي درهم، وإلى الثاني ثلثي درهم، مع ما دفعه إلى المالك، فذلك ثلاثة وثلث. فهذا يوافق قول المزني في قدر منتهى ما يخرج من كل واحد منهم وإن خالفه في الترتيب.
وعلى قول أبي الطيب بن سلمة: يضم ما وجب على الأول وهو أربعة وثلثان إلى ما وجب على الثاني وهو أربعة، وإلى ما وجب على الثالث وهو ثلاثة وثلث فذلك اثنا عشر، ويقسم العشرة عليها، فما قابل ما وجب على كل واحد منهم من العشرة.. كان عليه.
وعلى الوجه الرابع: يجب على الأول أرش جنايته درهمان، ثم تقسم قيمته بعد جناية الأول بينهم أثلاثا، فتكون على الأول أربعة دراهم وثلثان، وعلى كل واحد من الآخرين درهمان وثلثان.
وعلى الوجه الخامس: يجب على كل واحد منهم ثلث قيمته يوم جنايته، فيكون على الأول ثلاثة دراهم وثلث، وعلى الثاني درهمان وثلثان، وعلى الثالث درهمان وينقص من القيمة درهمان.
وعلى قول ابن خيران: تضم قيمة الصيد عند جناية كل واحد منهم إلى قيمته عند جناية صاحبيه، وذلك أربعة وعشرون، فتقسم العشرة عليها، فتكون على الأول عشرة أجزاء من أربعة وعشرين جزءا من عشرة دراهم وهي ربع العشرة وسدسها وعلى الثاني ثمانية أجزاء وهي ثلث العشرة، وعلى الثالث ستة أجزاء وهي ربع العشرة.

.[مسألة: انفلات الصيد من الكلب]

إذا أخذ الكلب صيدا ثم انفلت منه.. قال القاضي أبو الطيب في (المجرد) فإن كان قبل أن يدركه صاحبه.. لم يملكه صاحب الكلب بذلك، وإن كان بعدما أدركه صاحبه.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يملكه، لأنه لم يحصل في يده ولا أزال عن الامتناع.
والثاني: يملكه؛ لأن الكلب قد أمسكه له وأمكنه أخذه.
وإن كان في يده صيد فانفلت الصيد منه.. لم يزل ملكه عنه، سواء كان الصيد طائرا أو غيره، وسواء لحق بالبراري أو لم يلحق، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (إن كان يطير في البلد وحوله.. فهو على ملك من كان بيده، وإن لحق بالبراري وعاد إلى أصل التوحش.. زال ملكه عنه وكان لمن اصطاده).
دليلنا: أنه مال لمسلم فلم يزل ملكه بزوال يده عنه، كالعبد إذا أبق. وفيه احتراز من الحربي إذا قهر على ما بيده، فأما إذا أفلته من هو بيده باختياره.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها - وهو قول أبي علي بن أبي هريرة -: أنه يزول ملكه عنه؛ لأنه أزال يده عنه فأشبه ما لو كان معه عبد فأعتقه.
والثاني ـ وهو قول أبي إسحاق، واختيار القاضي أبي الطيب ـ: أنه لا يزول ملكه عنه، كما لو كان معه بهيمة فسيبها.
والثالث ـ وهو قول أبي علي في "الإفصاح"ـ: إن قصد بذلك التقرب إلى الله في إفلاته وتخليصه.. زال ملكه عنه، وإلا.. لم يزل.
وقال المسعودي في "الإبانة"إن قال: أعتقته.. لم يزل ملكه عنه بذلك، وإن قال: أبحته لغيري.. حل لغيره ولا يزول ملكه عنه بذلك.
وإن كان معه ماء فصبه، أو غير ذلك من المحقرات فطرحه.. فهل يزول ملكه عنه؟ فيه وجهان، كالوجهين الأولين، حكاهما في "الفروع".
قال الشاشي: والسواقط من الثمار تحت الأشجار إذا لم تكن محرزة وجرت عادة أهلها بإباحتها.. فهل تجري العادة في ذلك مجرى الإذن؟ فيه وجهان، حكاهما عن " كتاب الحاوي ". وبالله التوفيق

.[كتاب البيوع]

البيع جائز. والأصل في جوازه: الكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275].
وقَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282].
وقَوْله تَعَالَى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29].
وقَوْله تَعَالَى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]. والمداينة لا تكون إلا في بيع.
وقَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198].
قال ابن عباس، وابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: (نزلت هذه الآية في التجارة في مواسم الحج).
وأما السنة: فروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اشترى فرسا، وجارية، وباع حلسا، وقدحا.
وروي «عن قيس بن أبي غرزة الجهني: أنه قال: كنا نسمى على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السماسرة، فسمانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باسم أحسن منه فقال: «يا معشر التجار، إن البيع يحضره اللغو والحلف، فشوبوه بشيء من الصدقة». وروي «عن رافع بن خديج: أنه قال: قيل: يا رسول الله، أي الكسب أطيب؟ قال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور» و: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجتاز في السوق غدوة وعشيا ينهى عن الشيء بعد الشيء».
وأما الإجماع: فأجمعت الأمة على جوازه.
فروي: (أن أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان بزازا)، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لو اتجر أهل الجنة.. لم يتجروا إلا في البز».
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خير تجارتكم البز».
و: (كان أمير المؤمنين عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه يبيع الحنطة والأقط).
و: (كان العباس بن عبد المطلب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عطارا).
و: (كان أبو سفيان يبيع الأدم).
و: (ابتاعت عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بريرة بمشورة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -).
إذا ثبت هذا: فقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «يا تجار، كلكم فجار إلا من أخذ الحق وأعطاه».
وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «إن التجار هم الفجار. فقالوا: أليس قد أحل الله البيع؟ قال: «بلى، ولكنهم يحلفون ويكذبون». وهذا الذم إنما ينصرف إلى من يحلف ويكذب؛ لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «التاجر الأمين الصدوق المسلم مع الشهداء يوم القيامة».
وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لأن يأخذ أحدكم حبلا فيحتطب على ظهره، فيأتي، فيبيعه، فيأكل منه ويتصدق.. خير من أن يأتي رجلا أتاه الله من فضله، فيسأله، أعطاه أو منعه».

.[مسألة:فيمن يصح تصرفه]

ولا يصح البيع إلا من بالغ عاقل مختار.
فأما الصبي: فلا يصح بيعه، سواء كان بإذن الولي، أو بغير إذنه.
وقال أبو حنيفة، وأحمد رحمة الله عليهما: (يصح بيع الصبي المميز بإذن الولي).
فإن باع بغير إذنه.. كان عند أبي حنيفة موقوفا على إجازة الولي.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق».
ولأن الصبي غير مكلف، فلم يصح بيعه، كالمجنون، ولا يصح بيع المجنون؛ للخبر.
وإن أكره على البيع، فإن كان بغير حق.. لم يصح بيعه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما البيع عن تراض» فدل على: أنه لا بيع عن غير تراض.
وإن كان بحق، بأن كان عليه حق، وامتنع من أدائه.. فللحاكم أن يكرهه على بيع ما يؤدي به ذلك الحق، فإن أكرهه على البيع.. صح؛ لأنه قول حمل عليه بحق، فصح، كالحربي إذا أكره على كلمة الإسلام.

.[مسألة:اشتراط الإيجاب والقبول]

ولا يصح البيع عند عامة أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلا بالإيجاب والقبول.
وقال أبو حنيفة: (التعاطي بيع).
وحكي عن أبي العباس بن سريج: أنه قال: للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قول آخر مثل هذا في الأشياء التافهة، وليس بمشهور عنه.
وقال مالك رحمة الله عليه: (يقع البيع بما يعده الناس بيعا).
قال ابن الصباغ: وهذا له وجه جيد. قال: والذي ينبغي أن يعتبر في ذلك: أنهما متى افترقا عن تراض منهم بالمعاوضة.. فقد تم البيع بينهما.
وكذلك الحكم في الهدايا والهبة؛ لأن البيع موجود قبل الشرع، وإنما علق الشرع عليه أحكاما، فيجب أن يرجع فيه إلى العرف، كما يرجع في القبض والحرز والإخبار. ولأن المسلمين مجمعون في بيعاتهم على ذلك، ولم ينقل عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أنهم استعملوا البيع بلفظ البيع، ولو فعلوا ذلك.. لنقل نقلا شائعا، بل نقل: «أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وشكا إليه الحاجة، فقال له: «هل عندك شيء؟»، فجاءه بقعب وحلس، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من يشتري هذين؟»، فقال رجل: هما علي بدرهم، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من يزيد على درهم؟»، فقال آخر: هما علي بدرهمين، فقال: خذ» وروي «عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: أنه قال: كنا ندخل السوق، فنبيع الإبل بالدراهم، ونأخذ عنها الدنانير، ونبيع بالدنانير، ونأخذ عنها الدراهم، فسألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك فقال: لا بأس إذا تفرقتما، وليس بينكما شيء» ولم يذكر سوى الأخذ.
وقد أهدي إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الحبشة وغيرها، ولم ينقل: أنه أمر فيه بالإيجاب والقبول.
قال: ويحكى عن الشيخ أبي حامد: أنه سئل عما يتبايعه الناس؟ فقال: إنه ليس ببيع، ولكنه يسقط عن ذممهم بالتراضي بها.
قال: وهذا ليس بمستقيم؛ لأن في البيع الفاسد لا يختلف المذهب: أن لكل واحد من المتبايعين الرجوع على الآخر بما دفعه إليه إن كان باقيا، أو بقيمته إن كان تالفا، وقد حصل التراضي بينهما، وعلى أن إسقاط الحقوق يفتقر إلى اللفظ، فلم يجعل التراضي حال العقد يقوم مقام اللفظ في ذلك، ولم يجعله يقوم مقام اللفظ في المعاوضة.
قال ابن الصباغ: وسألت القاضي أبا الطيب عما يفعله الناس من ذلك؟ فقال: هو إباحات وليس بمعاوضات، فقلت له: إذا كان كل واحد منهما يبيح للآخر ما يدفعه إليه، ويستبيحه الآخر من جهة الإباحة.. فما تقول فيمن أعطى قطعة، وأخذ بقلا، فأكله، وعاد يطلب القطعة، فهل له ذلك أم لا؟ فقال: ليس له ذلك، فقلت له: فلو كان ذلك إباحة من كل واحد منهما.. لكان لأحدهما أن يرجع فيما أباحه قبل حصول الإتلاف من المباح له، ألا ترى أنه لو أباح رجلان كل واحد منهما لصاحبه طعاما، فأكل أحدهما ما أباحه له، ورجع عما أباحه لصاحبه.. كان له ذلك؟ فقال: إنما أباح كل واحد منهما للآخر بسبب إباحة الآخر له، فقلت له: هذا معنى المعاوضة دون الإباحة؛ لأن الإباحة إذا وجدت بعوض.. لم تكن إباحة.
والمشهور: أنه لا بد من الإيجاب والقبول؛ لأنه عقد معاوضة، فافتقر إلى الإيجاب والقبول، كالنكاح.
إذا ثبت هذا: فالإيجاب أن يقول البائع: بعتك، أو ملكتك بكذا، فيقول المبتاع: ابتعت، أو قبلت، أو اشتريت، أو قد اشتريت، فيصح.
فإن قال المشتري: بعني، فقال البائع: قد بعتك.. انعقد البيع وإن لم يقل المشتري: قبلت.
وقال أبو حنيفة، وأحمد رحمهما الله: (لا ينعقد).
دليلنا: أن كل عقد انعقد بالإيجاب والقبول.. انعقد بالإيجاب والاستدعاء، كالنكاح.
وإن قال المشتري: أتبيعني هذا بكذا؟ فقال البائع: بعتك.. لم ينعقد البيع؛ لأن قوله: (أتبيعني؟) استفهام، وليس باستدعاء، فلم ينعقد به البيع.
فإن فصل بين الإيجاب والقبول بزمان طويل، أو نام أحدهما، أو حجر عليه، أو قام من المجلس، ثم قبل.. لم يصح البيع.
وإن فصل بينهما بزمان قليل، بأن قال: بعتك داري بألف، فصبر المشتري زمانا قليلا، إلا أنه لم يفارق المجلس، ثم قال: قد اشتريت.. ففيه وجهان، حكاهما الصيمري، المشهور: أنه لا يصح.
وإن قال: بعتك داري بألف، فمات المشتري عقيب الإيجاب، وقبل القبول، وكان وارثه حاضرا، فقال الوارث عقيب موت مورثه: قبلت.. ففيه وجهان:
أحدهما قال الداركي: يصح؛ لأنه لما ورث ماله.. ورث القبول.
والثاني: لا يصح، وهو الصحيح؛ لأنه قبول من غير من أوجب له، فلم يصح، كما لو قال لزيد: بعتك، فقال عمرو: قبلت.